الأربعاء، 3 مارس 2010

وداعاً أبي مؤثرة جداا بقلم الغالية ماجدة شكور








وداعا يا أبي
(بسم الله الرحمن الرحيم)

(السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة)

منذ بضعة أيام مررت بسرادق عزاء .. 
فدخلت وجلست فيه دون أدنى تردد .. 

فأنا أعلم جيدا أن الوقوف مع أهل الميت بتقديم العزاء 
يزيح بعض الأسى من النفوس .. 
ويجعلها تعي أن قضاء الله لا راد له
وأن الموت حق وأن في نهاية المطاف قبر .. 
وجزاء وحساب ..وأن الدنيا هي بداية المشوار
والموت هو بداية أخرى لحياة أخرى .


ويقطع علي خلوة تفكيري رجل يحمل دلة قهوة
وقدم لي فنجانا فشربته شاكرةً إياه .. 
وعدت أدراجي إلى صومعة تفكيري ..
لا زلت أذكر جيدا عندما دخلت سرادق عزاء لأول مرة ..
كنت يومها في السابعة عشر من عمري قالوا لي أن والدي قد مات ..
استثقلت الكلمة الأخيرة في ذهني . مات ؟! ..
ما معنى مات ؟ لم أسألهم .. اخذوا بيدي يومها وأدخلوني في غرفة
أمتلئت بنساء متشحات بالبياض .. 
وكان أبي ممدا في وسط الغرفة معصوب الجبين ، 
حدقت في الوجوه جيدا .. هذه أمي .. وهذه أختي .. 
وهذه امرأة لا أعرفها تنوح وهي تعد نقودها .. 
إن وجهها مخيف ..
اقتربت مني وقالت بصوت خشن : اقتربي يا بنيتي وقبلي أباك للمرة الأخيرة ..
ومدت ذراعها نحوي تشدني بقوة نحو والدي الممدد أمام ناظري .. 
وتساءلت في داخلي .. لماذا لا يستيقظ أبي ويطرد هذه المرأة القاسية ؟ 
وهؤلاء النساء اللاتي يزعجنه في نومه بالبكاء ؟
وخرج نداء من شفتي يناجي الجسد المسجى أمامي .. أبي .. أبي .. 
واختنق النداء بدموعي التي سالت من عيني ..
إن أبي لا يريد أن يستيقظ .. وامتدت أيد كثيرة تبعدني عن الجسد الواهن .. 
وكانت تتناثر حول مسمعي كلمات عابرة وهمسات طائشة من هنا وهناك
فقد كنت أسمع من يقول : مسكينة ، قدرها أن تكون يتيمة .. 
وعبارة طائشة أخرى صافحت أذني يقول صاحبها : 
لقد ترك المرحوم ثروة كبيرة سيتقاتل عليها أبناؤه و بناته ..
لم أكن يومها أفقه شيئا مما يقولون.. يتيمة ؟ .. ثروة ؟ .. مرحوم ؟ ..
لا أدري معاني هذه الكلمات ولم يكن أمامي سوى عم الحسن ..
الرجل الطيب صديق والدي .. 
هو يستطيع أن يفسر لي ما حولي من بشر وأحداث .. 
جرتني قدماي نحوه ولم يكن على شفتي سوى سؤال واحد طرحته أمامه
فقلت له : عم الحسن .. إن أبي لا يريد أن يستيقظ .. لماذا ؟ ..
 
فنظر ألي قليلا فلمحت في عينيه شيئا يلمع ..
ابتسم في وجهي ابتسامة ظللتها سحابة حزن وآسى وقال : انه مسافر .. 
وسيتأخر في سفره قليلا ..قلت له : مسافر ؟ إذا تعال معي لنوقظه ونودعه ..
ومددت يدي محاولة أن يرافقني .. ولكن رأيت بركان الدموع
يتفجر في عينيه وينهمر على خديه وغاص وجهه بين كفيه يخفيه عن العيون .
. ابتعدت عنه وشعور بالدهشة سرى داخلي وعدت إلي مقعدي مرة أخرى ..
 وبدأت أتفرس الوجوه من جديد .. بعضها صامت ..


وبعضها يبكي بصمت .. وبعضها يتصنع البكاء .. 
بعضها يتأملني ويضرب كفا بكف ويقول كلمة واحدة : يتيمة .. 
وفيما أنا على هذا الحال أتأمل الوجوه إذا بي أرى رجلين يحملان 
كرسيا طويلا ويهمان بدخول بيتنا .. 
فجريت نحوهما ببراءة وقلت : لدينا الكثير من هذا الكرسي .. 
هل تريدان مثله ؟ .. فدفعني أحدهما بيده مزيحا جسدي الصغير عن الدرب .. 
عدت إلى مقعدي والحزن يكاد يمزقني .. 
لم أكن أفقه شيئا مما يدور حولي .. 
ولم أحاول أن أحلل ما أسمع و ما أرى .. 
جلست في مقعدي وصور لا تبارح مخيلتي ..
صورة النساء اللاتي اتشحن بالبياض وتجمعن حول أبي كالغربان
عندما تحلق فوق الضحية .. صورة المرأة التي تذرف دموعها 
حسب الاتفاق بينها وبين أمي على النقود .. 
وصورة رجل قال عني : يتيمة .. ورجل يبتسم لنكتة أطلقها الذي بجواره ..
و آخران انزويا وحيدين يتفقان على عقد بينهما .. 
و آخران يتفقان على موعد زفاف ..وآنا ..
أنا وحيدة في مقعدي انظر إلى هذا وذاك أنتظر أبي أن يخرج ويستقبل ضيوفه ..
ولكن انتظاري طال والضيوف ينتظرون .. 
فحاولت دخول البيت لاستعجاله ..
فإذا بي أجد الباب مقفلا من الداخل .. استغربت .. لماذا يقفلونه ؟ ..
قرعت الباب ففتح قليلا وأطل رجل برأسه ونظر ألي نظرة هلع لها قلبي فتراجعت قليلا .. 
أقفل الباب مرة أخرى ..
فحاولت أن أقرعه ثانية ولكنني تذكرت النظرة المرعبة من الرجل 
فجلست على الأرض بجانب الباب .. انتظر .. وأنتظر.. و أنتظر ..
وفجأة رأيت ماء يتسرب من تحت الباب يمر من بين قدمي .. 
كيف ؟ .. ومن أين ؟ .. رفعت رأسي نحو السماء ومددت يدي .. لا مطر ..
إذن ماذا يفعلون بالماء في الداخل ؟ .. 
حاولت أن ابحث عن ثقب في الباب أرقب منه ما يجري في دهليز البيت .. 
وبالفعل وجدت ثقبا في زاوية الباب الخشبي ..
ومددت عيني وبدأت أتلصص ..
لكن عتمة الدهليز وظلمته جعلت الرؤية غير واضحة ..
فلم أر سوى الرجلين الذين دخلا بالكرسي يحومان حول شيء وضع 
على الكرسي لم أتبينه من شدة الظلمة .. ويصبان الماء عليه ..
وفجأة شعرت بيد تمتد من خلفي وتجرني
وصوت يقول : ليس بمستحسن أن ترين هذا المنظر يا بنيتي ..
انه عم الحسن .. آخذني وأجلسني على كرسي بجواره 
وأخذ يحكي لي حكاية كما كان يفعل عندما كنت أزوره مع والدي .. 
طالت الحكاية .. وطال الوقت .. وعيناي لا تهبطان عن الباب .. 
وعم الحسن يحاول جاهدا أن يصرف انتباهي
عما يحدث في الداخل .فكنت اسمعه بلا وعي.. 
وكاد النعاس أن يغلبني عندما فتح الباب وخرج الرجلان يحملان
الكرسي على عاتقهما يساعدهما اخي وآخرون .. 
دققت النظر جيدا .. كأنه شخص نائم
ملتحف بملاءة بيضاء .. من هو ؟ .. إلى أين يأخذونه ؟ .. 
لماذا لا يسير مثلهم ؟ .. 
وأقتل أسئلتي وأحدق جيدا فإذا بي بفراش أبي الأخضر على الكرسي 
.. انه هو .. أبي .. وحاولت الجري خلف الجنازة ..
فإذا بيد عم الحسن تمسك بي ويقول : لا داعي لهذا .. بكيت .. 
صرخت أبي .. انتظرني يا أبي .. أرجوك .. كادوا أن يغيبوا عن ناظري ..
فأفلت بقوة من بين يدي عم الحسن .. 
وجريت في الشارع وحنجرتي الضعيفة
تنادي : أبي .. أبي ..لا تسافر ..
انتظرني .. وسقطت على الأرض متعبة .. 
وبعد جهد رفعت رأسي .. وألقيت نظرة أخيرة على الركب ..
والدموع تغسل وجهي .. ورفعت يدي ملوحة : وداعا أبي ..
سرقتني ذكريات هذه الحادثة عن سرادق العزاء الذي أنا فيه الآن ..
ولم أشعر ألا بصوت يعيدني إلى حاضري
قائلا : عذرا يا سيدتي يكاد السرادق أن يخلو .. 
فانتبهت إلى الصوت .. وانتبهت إلي واقعي ..
فقمت أقدم التعزية لأهل الفقيد وفي أعماقي فتاة صغير 
في السابعة عشر من عمرها تبكي بهدوء وهي تقول : 
وداعا أبي ..








مودتي/ مـاجدة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق